مصدر سياسي: الأطراف تبحث في الدوحة ملفات تتعلق بإنهاء الحرب استعدادًا للمرحلة المقبلة

بن كسبيت
يُقرأ في دقيقة واحدة
 
 
شارك المقال:

دخل اتفاق آخر لوقف إطلاق النار، للمرة الثالثة خلال أسبوع، حيّز التنفيذ أول أمس بين الدروز والعشائر البدوية، وبينهم وبين نظام أحمد الشرع في سورية. وبعكس اتفاقيّات وقف إطلاق النار السابقة، فإنه يبدو أن لهذا الاتفاق إمكانات صمود أكبر، وهذا لأن القيادة الدرزية تبنّت هذه المرة موقفاً موحداً اندرج تحته أيضاً القائد الروحي حكمت الهجري الذي عارض حتّى الآن كُل اتفاق وقف إطلاق نار أو تعاوُن مع النظام السوري. وقد انضمت قيادة العشائر البدوية - وهو مصطلح فضفاض لا يوضح هويّة هذه العشائر ومَن تمثّل - إلى وقف إطلاق النار، وأعلنت أنها ستلتزم بنوده، لكنها أوضحت أن تسليم السلاح منوط بقيام الدروز بخطوة مُشابهة.

وتُعد التصريحات المعتدلة لقيادات الأطراف المتنازعة خطوة مهمة نحو التهدئة، إلاّ إن الدم ما زال يغلي، ونتائج المواجهات ستغذّي الرغبة في الانتقام. وفي هذه الأثناء، تستمر المعارك في المنطقة، ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد قُتل منذ اندلاعها 718 شخصاً، بينهم 226 من سكان محافظة السويداء، 80 منهم مدنيون، و305 من أفراد قوات الأمن السورية، و18 من أبناء القبائل البدوية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تسببت الاشتباكات بأضرار جسيمة للأملاك والبنية التحتية، إذ خرجت بعض المرافق، كمنشآت إمداد المياه والكهرباء، عن الخدمة. وفي خطابه يوم الخميس، تعهّد الرئيس الشرع بالتحقيق وملاحقة كل من خرق القانون، "أياً تكن طائفته."

إلاّ إن مواطني سورية جرّبوا هذه الوعود التي تبيّن أنها فارغة من المضمون، وتُعد مجزرة أبناء الطائفة العلوية، بالإضافة إلى التفجير الذي استهدف كنيسة مار إلياس في دمشق في شهر حزيران/يونيو، والذي أسفر عن مقتل 25 شخصاً، مثالاً لذلك. والآن، يبقى أن ننتظر لنرى كيف سيتم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين الدروز والبدو، وكيف سيدير الشرع الصلاحية التي مُنحت إلى قواته للمحافظة على الأمن في هذه المنطقة المشتعلة. وكل ذلك يأتي بالتوازي مع محاولاته لتنسيق انتشار القوات وسلوكها في مُقابل القيادة الدرزية.

أمّا الخطوة التي أحدثت التحوّل، فقد كانت اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وسورية، والذي تم التوصل إليه بضغط أميركي، بعد أن شنّ الجيش هجمات على مبانٍ حكومية، بينها هيئة الأركان السورية وأهداف أُخرى بالقرب من القصر الرئاسي. وكان الخوف المبرر والفوري هو أن يتحوّل الصراع الطائفي - الذي شهدت محافظة السويداء عشرات الأمثلة له عبر تاريخها - إلى حرب شاملة بين إسرائيل ونظام الشرع، بالتوازي مع اندلاع حرب أهلية جديدة تخرج عن السيطرة. وإن تطوراً كهذا هو آخر ما تحتاج إليه إدارة ترامب، التي انشغلت في الأسابيع الأخيرة بكل طاقتها في صوغ مخطّط للسيطرة في سورية يتيح لها سحب قواتها والتخلّص من ساحة تعتبرها غير ضرورية بعد الآن.

ربما يستطيع ترامب أن يتفهم ردة الفعل الغريزية لإسرائيل التي سارعت إلى الدفاع عن "إخواننا الدروز"، على الرغم من أن جزءاً من قيادتهم في سورية لم يطلب ذلك، بل أيضاً عارضه. لكن ما لم يفهموه في واشنطن هو قرار إسرائيل مهاجمة القوات السورية التي بدأت تتحرك نحو السويداء لفرض النظام هناك، وبالتأكيد لم يتفهموا قصف مؤسسات النظام. وربما يدل رد وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، "المخفف" على الهجوم على حجم الغضب الذي أثارته هذه العملية؛ إذ قال رداً على سؤال الصحافيين إن "العداوات التاريخية بين مجموعات متعددة في جنوب غرب سورية أدت إلى وضع مؤسف، وإلى ما يبدو أنه سوء تفاهم بين إسرائيل والطرف السوري."

ولم ينجح المصطلح "سوء فهم" الذي استخدمه روبيو لوصف التطورات في إخفاء الصدمة التي أحدثها الهجوم الإسرائيلي، ويبدو أن ذلك لم يكُن "سوء تفاهم" بين إسرائيل والنظام السوري بقدر ما كان سوء فهم من جانب إسرائيل للموقف الأميركي، فعندما قال روبيو في المؤتمر الصحافي نفسه إنه تحدث "إلى الأطراف المعنية"، فإنه كان قد سمع فعلاً من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، رأيه بشأن الهجوم الإسرائيلي، وأنه يشكّل تهديداً لتنسيق العمل العسكري بين إسرائيل وتركيا. كما كان وزير الخارجية الأميركي قد تلقّى تقارير تفيد بأن الأردن يحشد قوات قرب حدوده مع سورية بهدف منع امتداد الاشتباكات إلى أراضيه.

على ما يبدو، فإن إمكان انفجار حرب أهلية جديدة يمكن أن تزعزع نظام الشرع، الذي يحظى بدعم من السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة، لم يُؤخذ في الحسبان في إسرائيل، التي رأت في الحرب الطائفية فرصة لتحديد خط حدودي إضافي بينها وبين سورية. وخلال مطلع الأسبوع الماضي، أعلنت إسرائيل أن الغارات على القوات السورية جاءت لمنع اقتراب "قوات معادية" من حدودها. وبحسب تصريح المتحدث باسم الجيش، فإن "الجيش الإسرائيلي لن يسمح بوجود تهديد عسكري في جنوب سورية، وسيتحرك ضده.

" لكن لم تمضِ إلاّ فترة وجيزة حتى تغيّر التبرير، والحجة الجديدة كانت التزام حماية الدروز، وهو موقف دُعِم من جانب القيادة الدرزية في إسرائيل، وشجّع على ذلك أيضاً اختراق الحدود في الجولان وتدفُّق مئات الدروز الإسرائيليين إلى الأراضي السورية. ولم تكن إسرائيل مستعدة لذلك أيضاً، ووجدت الدولة الأكثر تحصيناً في الشرق الأوسط نفسها مرة أُخرى أمام حدود مخترقة خارج نطاق السيطرة.

وفي يوم الهجوم الإسرائيلي على أهداف تابعة للنظام في دمشق، استضاف الرئيس ترامب ولي عهد البحرين، سلمان بن حمد آل خليفة، وهو راعٍ آخر للشرع. كان من المفترض أن تدرك إسرائيل أن الهجوم على نظام الشرع يُعدّ استفزازاً لحزام الأمان السميك الذي يحيط به، والذي تشارك فيه الدول العربية الكبرى، وتركيا، والولايات المتحدة، ودول أوروبية. هذه الدول، التي منحت الشرع اعترافاً كاملاً ورفعت العقوبات عن سورية، ترى في الرئيس السوري — على الرغم من التحفّظات والقيود —الزعيم الأوفر حظاً في تثبيت استقرار سورية ودفع الاستراتيجيا الأميركية قُدُماً.

وتطمح الولايات المتحدة إلى نقْل مهمّة مُحاربة "داعش" إلى تركيا، وضمان سلامة الأكراد في سورية، وهذا الأمر يحتاج إلى توقيع اتفاق كامل بين الأكراد والشرع. وعيون الأكراد تُراقب جيداً تصرّفات الرئيس في الأزمة إزاء الدروز، وفي هذا السياق، هناك سؤالان أساسيان: الأول؛ هل ستوافق عشرات الميليشيات الدرزية، التي تعاني جرّاء انقسامات فيما بينها، على الاندماج في الجيش السوري، وبأي صيغة؟ والثاني؛ ما مدى الحكم الذاتي المحلي الذي سيمنحه الشرع إلى المنطقة السورية؟

إن مبعوث ترامب، توم باراك، يمارس ضغوطاً شديدة على الأكراد من أجل استكمال وتنفيذ الاتفاق الذي وقّعوه مع الشرع في شهر مارس/آذار، والذي يقضي بانضمامهم إلى الجيش السوري ونقل السيطرة على مناطقهم إلى الحكومة المركزية، إلاّ إنه أدرك على الفور أن المعركة في السويداء على وشك أن تُفشل تلك الجهود، وكل ذلك برعاية إسرائيل. ومن المهم التذكير بأنه تحت الضغط الأميركي نفسه، بدأت إسرائيل بنفسها، حتى قبل اندلاع الأحداث، في تغيير موقفها تجاه الشرع؛ إذ أجرى ممثلوها عدة لقاءات مباشرة مع كبار مسؤولي النظام، وظل هناك أيضاً أساس لتنسيق أمني بين البلدين. وفي الواقع، فإنه حتّى الأسبوع الماضي، انشغلت التحليلات السياسية بسؤال ما إذا كان الشرع سيلتقي بنيامين نتنياهو خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المرتقب في نيويورك خلال أيلول/سبتمبر. وفجأة، في لحظة واحدة، عاد الشرع ليُصوَّر كجهادي إسلامي، لا يهدد فقط حياة الدروز، بل أيضاً أمن إسرائيل.

وفي ظل هذا التحوّل، فقد وجدت الدولة الأقوى في العالم - التي تسعى لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط- نفسها فجأة تنجر إلى صراع طائفي، وفي إطاره، فقد كان على الولايات المتحدة أن تأخذ في الحسبان المشاعر الإسرائيلية تجاه الدروز، وتمنحها أولوية على حساب سياستها الإقليمية. ونتيجة لذلك، فقد جاءت الاستجابة الأميركية سريعة وحاسمة وحادّة؛ إذ طُلب من إسرائيل أن "تمنح الإذن" إلى القوات السورية بالوصول إلى محافظة السويداء لفرض النظام، بعد أن كانت قد أوضحت مسبقاً أنها ستمنع ذلك بالقوة، ووقّعت اتفاق وقف إطلاق نار مع النظام، ويبدو أنها أيضاً أشركت الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق طريف، في الجهد لإقناع صديقه حكمت الهجري بإلقاء السلاح ودعم الاتفاق.

والنتيجة هي أنه كما حاولت إسرائيل أن ترسم للشرع حدود التدخّل المسموح بها في سورية، فإن الولايات المتحدة ترسم لإسرائيل حدودها. وستستمر إسرائيل حتى إشعار آخر في السيطرة على المناطق التي استولت عليها في شرق سورية وجنوبها، لكن التدخّل في السياسة الطائفية السورية بما يعرّض المصالح الأميركية للخطر هو خط أحمر.